أحداث 13يناير 1986مجمع التناقضات المميتة:
لا يذكر لنا مؤلف كتاب(اليمن واليمنيون) د.أوليغ بيريسيبكين تفاصيل عن أحداث 13يناير1986م، مبررا ذلك بمعرفة اليمنيين ومعايشتهم لتلك المذبحة. مكتفيا بالحديث عن التناقضات التي طفت إلى السطح عام 1980 بين علي عنتر وعبد الفتاح اسماعيل بما يمثلانه من قوى مدينية أو قوى قبلية.فقد كان علي عنتر يصف عبد الفتاح إسماعيل وأصحابه بـ”السوس حق الحجرية”كما ذكر ذلك يحيى منصور أبو اصبع، في مذكراته التي كتبها عن الشهيد عبد السلام الدميني. لينتهي ذلك الصراع في مصلحة علي ناصر محمد الذي جمع بين سلطته في رئاسة مجلس الشعب وأمين عام للحزب ورئيسا للوزراء، بعد أن تمت إقالة عبد الفتاح إسماعيل ونفيه إلى الاتحاد السوفيتي بحجة أنه مريض ويحتاج إلى العلاج، واخترعوا له منصبا وهميا (رئيسا للحزب) ليس له محل من الاعراب في النظام الداخلي للحزب.
لكن التناقضات بدأت تطفو على السطح بين الرئيس علي ناصر محمد الذي جمع كل سلطات الدولة الحزب بيده، وبدأت قراراته بإزاحة علي عنتر من وزارة الدفاع وتعيينه بوزارة الإدارة المحلية، وغيرها من القرارات في الجيش والحكومة، في سعي “لأبينة” السلطة؛ أي جعل بطانة سلطته من منطقته وقبيلته في أبين مما دفع بعلي عنتر إلى المطالبة بعودة عبد الفتاح إسماعيل، ومع عودة فتاح إلى عدن في 7مارس عام 1985م والسعي إلى عقد مؤتمر عام للحزب، وتوزيع السلطات التي تجمعت بيد علي ناصر محمد كان الجميع يتجه نحو المذبحة، والتي تم ترتيبها باجتماع المكتب السياسي في مقره، وذلك في 13يناير 1986. ويبدو أن كل طرف كان مستعدا للتخلص من عبد الفتاح إسماعيل متى ما حسم الأمر لصالحه.
بحسب كتاب (اليمن الجنوب- الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة ) لعلي الصراف- والصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر-بطبعته الأولى :نيسان/ابريل1992م- فإن أحداث 13يناير وتصفية عبد الفتاح إسماعيل كشف جوهر الصراع في جمهورية اليمن الديمقراطية بأنه كان صراعا عاريا على السلطة “ففي اليوم الخامس من الفوضى العظيمة، قُتِل عبد الفتاح إسماعيل على يد واحد من أعضاء فريقه المعارض. الأمر الذي يؤكد حقيقة واحدة، هي أن الصراع من أجل السلطة والنفوذ كان صراعا عاريا تماما من أية أغطية أيديولوجية أو سياسية. وبعبارة مباشرة(وعارية أيضا) من أجل مصالح ضيقة للغاية :شخصية وقبلية لا علاقة لها لا بيمين رجعي ولا بيسار انتهازي. فقد مَثّل عبد الفتاح اسماعيل (الشمالي الأصل، والمديني المنشأ والثقافة)بالنسبة لقاتليه زائدة أيديولوجية، ورمزا واسع الظلال إلى درجة سوف لن تسمح، إذا ما بقي حيا، ببروز شخصية أخرى تنافسه. وقد كان أمام الجيل التالي لجيل “القادة التاريخيين” للجبهة القومية. ولوقت طويل ظل الأمر لغزا محيرا، ومحرجا في الوقت نفسه “للقيادةالجماعية”الجديدةبرمتها”ص352.
قيل في البدء بأن عبد الفتاح إسماعيل قُتِل داخل مدرعة أقلته هو وعلي سالم البيض، وبعد نزول البيض منها تعرضت لنيران من أحد مواقع البحرية، التي دمرتها ولم يعثر على جثة عبد الفتاح، لكن زوجة عبد الفتاح تؤكد أنه اتصل بها ثالث يوم من الحداث مما يجعل مقتله في يوم خروجه من مقر اجتماعات المكتب السياسي يوم 13يناير ليست صحيحة.
وكان بالإمكان التأكد من جثة عبد الفاتح إذا كانت قد احترقت داخل المدرعة كما قيل في الرواية التي تم تعميمها في البداية، وذلك من خاتم زواجه الممهور باسم زوجته، أو من خلال إحدى فقرات ظهره المعالجة بمعدن غير قابل للاحتراق.
ثم تغيرت الرواية لتصبح أن المدرعة التي أقلت عبد الفتاح أوقفت عند أحد الحواجز التابعة للقوات البحرية الموالية للرئيس علي ناصر محمد، وأنه أخذ كرهينة، إلاَّ أن جثته ألقيت في البحر بعد أن حُسِم الموقف ” والحقيقة هي أن عبد الفتاح إسماعيل خرج مباشرة إلى منزل عضو اللجنة المركزية سعيد صالح، القريب من المبنى. وبقي فيه ليتابع أعمال المقاومة ضد القوات الموالية للرئيس علي ناصر محمد.
وفي اليوم الخامس، وبعد جلاء الموقف العسكري وتقهقر قوات الرئيس وانسحاب قسم كبير منها إلى “أبين” معقل علي ناصر محمد ومسقط رأسه، اقتيد عبد الفتاح إسماعيل من منزل سعيد صالح مخفورا بحراسة قريب لهذا الأخير يدعى “جوهر” تولى قتله وإحراق جثته ودفن بقاياها في مكان لا يبعد كثيرا عن منزل سعيد صالح الذي سيتقلد واحدا من أهم المناصب الحكومية: وزيرا أمن الدولة”ص354.
أدرك “جوهر” خطورة وفداحة ما صنعه، فبحسب ما ينقله علي الصراف في كتابه هذا، فقد انتابته “حمى الضمير، فضل يردد لأيام متواصلة عبارة واحدة، هي :”أنا قتلت الشعب، لقد قتلت الشعب” “أما سعيد صالح الذي قال إن عبد الفتاح إسماعيل خرج من منزله بمدرعة و”لم يعد” فقد قَتَل جوهر مدعيا أنه انتحر بعد أن أصيب بالجنون، ثم بعد سنوات، أي في حزيران 1991، قُتِل سعيد صالح في “حادث مؤسف” مما يعني أن ثمة واحد على الأقل من “القيادة الجماعية” الجديدة كان يعرف من قتل عبد الفتاح إسماعيل وأين دفنت بقاياه، وهو الذي سوف يتدبر بعد عدة سنوات (في حزيران 1991) قتل سعيد صالح في “حادث مؤسف”.ص354.
تكمن الأزمة المتراكمة بتناقضاتها في الصراع العاري على السلطة، فقد أزيح الشعب باسم البروليتاريا، وأزيحت البروليتاريا الصورية باسم الحزب الطليعي، وأزيح الحزب باسم اللجنة المركزية، وأزيحت اللجنة المركزية باسم الأمين العام. وكأنه شيخ قبيلة لا رئيسا بصفة مدنية كما يذهب إلى هذا التعبير علي الصراف في كتابه سابق الذكر.
يقول علي الصراف ” لاشك أن التعددية السياسية في بيئة اجتماعية متخلفة لم تكن لتقدم وعدا بصراعات أقل دموية، إلاَّ أن المجتمع يظل قادرا على أن يضع أسسا وقواعد تجعل من هذه الصراعات ممارسة ديمقراطية، لكن بطردها من مجالها كصراعات بين الكتل الاجتماعية نفسها إلى صراعات بين التكوينات السياسية التي تعبر عنها، لتكون صراعات ذات طابع تعبيري تتعايش مع الآخر، لا صراعات ذات طابع كياني تنفي الآخر ولا توجد إلاَّ لتلغيه”ص358.
لقد كان الحزب ممثلا في منطقه الشمولي لمفهوم القبائل والمناطق التي لا يسعها أن تتصارع إلاَّ كيانيا. وهنا يتحول الحزب إلى كيان اجتماعي يماثل الكيانات التقليدية في المجتمع، كونه تعبيرا عن الطبقة العاملة، وإن لم يكن لهذه الطبقة وجودها العضوي والفاعل في المجتمع!
أخذت مراجعات الحزب الاشتراكي ما بعد أحداث 13يناير توجها نقديا جوهريا، والتي حملت على عاتقها نقد التجربة السابقة للحزب بكل مظاهرها القبلية، كان ذلك أول نقد يمس فكرة الحزب الطليعي الذي يختزل الشعب بالبروليتاريا ، والبروليتاريا بالحزب الطليعي، والحزب باللجنة المركزية ، واللجنة بالأمين العام. وهو ما جعل فكرة الاصطفاء الطليعي تتآكل، ويبدأ التفكير العملي بالتعددية السياسية والحزبية والتوجه نحو الوحدة اليمنية كطاقية إنقاذ تشترط تلازم الوحدة بالديمقراطية. وهو ما قاد الحزب الاشتراكي في خاتمة المطاف إلى أن جوهر المراجعات ينبغي أن يتجه نحو تعبيد طريق الوحدة بالديمقراطية، لتجاوز وجبات الاقتتال، ومن ثم الانتقال بالصراع من صراع كيانات اجتماعية قبلية إلى صراع سياسي تجسده الأحزاب كرمزية تعبيرية للاختلاف، بما يعزز من ممارسة التعايش الاجتماعي والتطور، لا الاقتتال والتخلف.