- محمد ناجي أحمد
في كتابه (تعايشي مع الحركة الوطنية في اليمن”1955-1963م” والصادر عن شركة الأمل للطباعة والنشر –يناير 1994م– يلج أحمد منصور أبو أصبع في مذكراته هذه بمقدمة نظرية تعكس وعيا وإلماما بماهية المذكرات السياسية وعلاقتها بالتاريخ .وهو يبتدئ مذكراته بإهداء إلى المرأة المناضلة ،مشيرا إلى ابنته بلقيس وأخواتها ، وللمستقبل ولليمن القوي الموحد.
في مفتتح الكتاب نجد تقريضا للرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني ، مؤرخا بـ21-8-1993م- يشير فيه إلى الدور الذي لعبه أحمد منصور أبو اصبع كحلقة تواصل بين الأحرار قبل الثورة ” تلك الفترة التي كان فيها لصاحب المذكرات دورا نشيطا رغم حداثة سنه حينها. فقد كان محل ثقة الجميع مما جعله مؤهلا لدور خطير في العمل الوطني ، تمثل في نقل الرسائل وردودها ، وفي القيام بحلقة الوصل بين بعض المناضلين الذين لم تكن ظروفهم تسمح لهم بالتواصل والالتقاء” وهو ما اتاح لصاحب المذكرات بحسب الرئيس القاضي الإرياني” معرفة واسعة قلما أتيحت لأحد”.
يتناول الكتاب أهم سنوات تاريخ الحركة الوطنية(1955-1963) فالنصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين جسد النضوج السياسي والثوري للأحزاب والنقابات والتنظيمات العسكرية والمدنية في اليمن. هي سنوات اختمار فكرة الجمهورية كبديل للنظام السياسي المتوكلي والاستعمار شمالا وجنوبا. ففيها تحول الحراك الوطني إلى أفقه التنظيمي ،وصولا إلى تجسيده العملي من خلال تنظيم الضباط الأحرار عام 1961م في الشمال، ومن خلال تأسيس الجبهة القومية وتبني الكفاح المسلح عام 1963م في الجنوب.
في مقدمة كتابه يعكس صاحب المذكرات وعيا نظريا ناضجا ومتقدما على من سبقوه ومن جاء بعده من كتاب المذكرات السياسية في اليمن، وبلغة تحمل وعيا نظريا متنبها لماهية المذكرات بل وبماهية التاريخ وصناعته.
يرى المؤلف أن صدور المذكرات السياسية من منظور شخصي ، والتي تعبر عن أدوار الأشخاص وإسهاماتهم في الحركة الوطنية أمر مهم ، ولا ينبغي أن يستهان بشأنها ، فتوافر ” المزيد من المذكرات الشخصية بما تقدمه من رؤى متعددة ومعلومات متباينة من شأنه أن يوضح الرؤية التاريخية اللاحقة ويخدم قضية التوثيق”.
والمؤلف ينطلق في كتابته لهذه المذكرات والمعايشات للحركة الوطنية من وعي راسخ بأن المذكرات الشخصية ليست كتابة لتاريخ ولا تحليلا شاملا للأحداث ، وإنما هي سيرة لما لامسه من الأحداث، رصد للأفعال والانفعالات وتبلور الرؤى ، وغن كانت تحليلية بهذا القدر من بسط المعلومات وتبلور الاتجاهات ، لكنها ليست بسطا تحليليا شاملا بالمعنى العلمي.
لهذا فالمؤلف يتوخى أن تسهم مذكراته في رصد تطور الوعي الوطني ، مما يقترب من فهم العلاقة الجدلية بين الثقافة والوعي الوطني ، مع إدراكه أن هناك ظروفا موضوعية وذاتية تصنع من بعض المناضلين عمالقة للوطنية اليمنية وإن لم يكن لهم حظ من الثقافة.
والمؤلف يتوخى أن تسهم مذكراته في بسط كم من المعلومات أمام المؤرخين والدارسين، ولهذا فإن تعدد المذكرات الشخصية يقدم هذه الخدمة من خلال لفت النظر إلى معلومات ووقائع ربما فاتت أو تم تجاهلها لسبب أو لآخر. وكذلك توفر المذكرات السياسية تنوعا في الرؤى والوقائع المحدودة والرؤية الواحدة . فمن خلال اطلاع المؤلف على المذكرات التي صدرت قبل كتابه لاحظ الغبن والظلم في تجاهل أدوار ” المناضلين الشرفاء” الذين أسهموا في الحركة الوطنية بنبل وتجرد. وأن هناك طبقة سياسية عملت على ما أسميته في كتابي (المذكرات السياسية في اليمن) والصادر عام 2012بـ الاستيلاء على الذاكرة الوطنية ، فهذه الطبقة لم تستول على سلطة الأمر الواقع بغلبتها وسطوتها بل واتجهت بمذكراتها للاستيلاء على “سلطة التاريخ” و”حرب الذاكرة” من خلال احتكار الكتابة عن الذاكرة الوطنية ، مستثمرة الصمت والنسيان الذي تراكم نتيجة العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد أطلق (أحمد أبو اصبع ) على هذه الطبقة مصطلح “أرستقراطية المناضلين”
ولهذا فمن دوافع هذا الكتاب هو ” إنصاف هؤلاء الذين تواروا خلف الستار لمجرد أنهم أكثر نقاء في وطنيتهم وأكثر تفانيا ونبلا في نضالهم في نضالهم وتضحياتهم”
وكذلك لأن مسألة التوثيق قضية أساسية في دوافع كتابة هذه المذكرات والمعايشات للحركة الوطنية، سواء من خلال رصد التطور الشخصي في مراحله المختلفة أو بسط المحطات الأساسية للحياة النضالية في الفترة الممتدة بين 1955-1963.
وتسليط الضوء على بعض الوقائع السياسية كالوجود الأجنبي في اليمن في هذه الفترة، ونشاطاته ، وبداية تبلور الأحزاب (الشيوعيين ، القوميين العرب ، البعث).
وببصيرة تعي مفهوم النضال بديمومته يؤكد المؤلف أنه في هذه المذكرات لا يقول كلمته الأخيرة ، فهو لا يؤمن بأن الواجب الوطني منجز تم تأديته ، وأن الوقت قد أصبح ” للفرجة أو مضغ الحسرة أو اجترار المفاخر فذلك كله من شأن المتقاعدين، ومن تنتهي طاقتهم الوطنية عند مرحلة نضالية معينة ، ولكنني أؤمن بأن الواجب لايزال أمامنا بمقدار ما هو خلفنا وأن نضال الإنسان في سبيل الرقي والتقدم سلسلة لم تنقطع من …افتراض محطة وصول نهائية للعمل الوطني أمر خطير ومخرب، وإن كان من حق البعض المغادرة في محطة ما لأمر ما إرهاقا أو خور أو عمى طارئا أو استسلاما لوهم حلاوة الغرق في بركة العسل”.
وهذا الطرح الذي يمتلك مفهوما شاملا للنضال في ديمومته يختلف نوعا ما عن ما أورده يحيى منصور أبو اصبع في الحلقة (13) من شهاداته المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي 2020م بعنوان(شهادتي عن عبد الوارث عبد الكريم والرئيس الغشمي…) فشخصية أحمد منصور أبو اصبح تحضر في عقد السبعينيات وكأنها تعبت من ضريبة النضال ” سألت أحمد منصور عن حمود قطينة أشياء كثيرة مما جعل أحمد يسأل أيش هذا البحث كله وإلا في نية لعمل شيء، رجاء إذا هناك شيء خبروني من أجل أخرج من صنعاء ، ما عاد بي طافة على السجون وعذاباتها”.
هل هي لحظة إعياء عابرة ؟ هذا ظني ، فوضوح المسار الثوري ومواصلة طريقه واضح في كتابه عن الحركة الوطنية ، وعمق الفهم للنضال الثوري بأنه ليس إنجازا له بداية ونهاية وإنما سلسلة متصلة لا نهاية لها ، وأن ” افتراض محطة وصول نهائية للعمل الوطني أمر خطير ومخرب…” فهذا الوعي الثوري الواضح والمتجلي يجعل ما ذكره يحيى أبو اصبع في حلقاته التي لازالت تتوالى في النشر- مجرد التقاط للعابر من المشاعر اللحظية ، وإن كان إيرادها في سياق الإعداد لانقلاب يستهدف إسقاط نظام الرئيس أحمد حسين الغشمي يجعل القارئ يخرج بصورة خاطئة أو قاصرة عن (أحمد منصور أبو اصبع).
هذا ليس كتاب مذكرات وسرد وقائع فحسب بل هو كتاب يقترب من التاريخ والاجتماع والسياسة.
حين يتحدث المؤلف عن المؤثرات الأولى لوعيه الوطني يحددها بـ: بؤس الواقع المعاش، وضغط الوقائع والأحداث التي يفرزها الواقع.
ثم يلج من هذا المنظور الكلي إلى تفاصيل الواقع والطفولة وما بعدها.
يتحدث عن جده، وتأثيره فيها ، وكيف أرسله للكتاب ، وكيف كان الجد يتباهى بحفيده وقد أصبح قادرا على القراءة بعد سنوات -وإن بركاكة -في كتاب(فتوح الشام) و(عنترة بن شداد) و(أبو زيد الهلالي) وهي الكتب التي اشتراها للجد حين كان مسجونا في “حجة” بداية الأربعينيات، والتي سجن فيها لمدة ثلاث سنوات بسبب إنفاقه على أسر بيت دماج وأبو راس ، وحين اعترف الجد للإمام أمر بسجنه. وهي الكتب التي اشتراها له السيد محسن بن ناجي باعلوي وقرأها الجد في سجنه.
منطلقا من المؤثرات التي شكلت وعيه الوطني يسرد (أحمد أبو اصبع) تفاصيل الواقع المعاش في القرية وجبلة وإب وتعز الخ.
يذكر المؤلف بعض الشذرات الحكائية المتعلقة بالبدايات ، فجدهم المؤسس انتقل مع ابنه” يحيى بن ناصر” من ذي محمد في برط إلى الربادي ضمن موجة الهجرة جنوبا بحثا عن الرزق وتخلصا من شظف الحياة في المشرق” ومن طرائف الجد المؤسس أنه أوصى أولاده بعدم إقامة علاقات مع أهل المشرق أو الهاشميين ، لا عن طريق الأراضي ولا عن طريق النسب وذلك كما أفاد أبناؤه نتيجة تجارب مع الفريقين”.
كأي فلاح فإن طموح صاحب المذكرات حين كان طفلا هو أن يمتلك الحمار والكلب وأن يصبح تاجرا ذو ثروة محددة…