- عبدالرحمن بجاش
أحرص بين الحين والأخر على زيارة أمثاله ..
صالح، من قريتي التي أنبتت رجالا وكرامة …
صالح وهو صالح بالفعل كان والده العم عبد الرحمن يأخذني صغيرا معه ، ليركبني على “ساق العدة” التي يجرها “سحب” وثوران …كنت أملك الدنيا ووالد صالح يدللني صغيرا هكذا ” درح”، لذلك كلما أسمع جدتي تقول : عبد الرحمن عبد القادر “شبكر باكر يبتل الأرض” لاتسعني الدنيا من الفرح “بكره شركب ياعمة فوق العدة”، ومن البكور مع أول طير نفتح باب الكون …
تتوزع أشعة الشمس بين الاحوال وتتشكل ألوانا وصور بين المخالف والأسوام والشواجب.. ترتفع دخاخين المطابخ ، ومن لون الدخان تدري ماذا سيفطرون في كل بيت.. يهل وجهه كطين الأرض , لاتفارقه الضحكة مطلقا: “أين درح ؟” ياالله كم لوقع صوته في نفسي طربا ودندنة أجمل من دندنة عود زرياب..
أقفز سريعا بعد الثور ذهب بعد عمنا عبدالرحمن عبد القادر بتول القرية أكرم مهنة يؤديها ، وهل هناك أكرم ممن يشق الطين ويزرعها سنابل محاجين دخن وذرة .
يحمل “العدة” وبعده من يحمل “المضمد” وأظل وراءه إلى “حن الغداء” عندما تأتي عمتي بالمزغول وما تيسر من “الأعواس”الذرة” وإذا توفرت عندها قليلا من حلاوة فيكون يومه ويومك خير من زمن .
رحم الله العم عبد الرحمن ، فمنذ ذلك اليوم الذي تركنا ورحل وقد أبيض شعري ماتت الأرض وتيتمت القرية..
صالح ثالث ثلاثة هم أولاده ،وصالح كإسمه ، خلوقا ، دمثا ، خجولا ، طيب كالأرض التي كان يشق جوفها والده ..
قبل قليل ذهبت إلى الورشة حيث يعمل بلا كلل ولا ملل.. من أجل اللقمة الكريمة المشبعة بعزة النفس..
أول ما أظهر عليه، أرى في وجهه كل تاريخ البداية ، بيوت القرية ، أشجارها ، أبقارها ، نساءها ، عمرنا ، شقاوتنا ، آثارنا التي تركناها وذهبنا ، أشواقنا، وأشجاننا ….
في وجهه يمر أمامي العم عبد الواسع ، وهزاع ، ودرهم ، وعقلان ، وحمود ، وعبد الولي ، وعبد القوي والفقيه علي نعمان ، والفقيه محمد طربوش أجمل النفوس التي عمرت قريتنا التي كانت طيبة وكرامة..
من طين الأرض جاء صالح ، يحرث الحياة بحثا عن عيش نظيف.. ترى التعب يرتسم على وجهه خطوطا من إرهاق ، لكن ابتسامته لم تفارقه برغم كل العناء.
طين الأرض هو صالح وأمثاله …ومنه وأمثاله أستمد قيم الحياة وجمالها..
جلست إليه هذا الصباح بين السيارات المسمكرة ورائحة الرنج ، وعلى الأرض أفترشت معه وبقية العمال ذلك الفراش الذي عليه أثر عرقهم وعزة أنفسهم..
بالنسبة لي وقد عدت أفرغ حبر قلمي هنا ، هذا صباح برغم الغبار الذي يحتل المدينة أجمل الصباحات..
شكرا صالح عبدالرحمن عبد القادر عبدان ، شكرا أنك زودتني بطاقة حب لن تنضب ، طالما أنت وأمثالك تعملون وتثابرون ، وترسلون إلى أولادكم ناتج تعبكم ثمن اللقمة ، رافعين رؤوسكم كرامة وعزة..
ملح الأرض أنتم وطينها ، وسحقا لمن يأكلون حق الطيبين العاملين …تربة الأرض التي تختلط بعرقكم .