- عبدالكريم الرازحي
فيما كان الاطفالُ يلعبون في ساحة القريةعصر ذات يوم. ترامى الى مسامعهم صوت الحمَّار رشيدالمُطَلِّس يصرخُ من فوق حماره ويطلقُ صيحاتٍ مريعة :
- مجاذيم..مجاذيم ..مجاذيم ..مجاذيم.
ايامها كان الناس ينظرون الى مرض الجُذَام على انه عقوبة إلهية، وإلى المجذوم على انه شخصٌ ملعونٌ يستحق اللعنة، لاالرحمة ،ويستحق العزل، والطرد، والنبذ، وحتى القتل .
وكان ظهور مجذوم في قرية من القرى اشبه بظهور وحش كاسر. وبمجرد ان يبصروه اويسمعوا بأن مجذوما يقترب من قريتهم حتى تمتلئ قلوبهم بالرعب ويلوذوابالفرار.
واحيانا كانوا يُجَنُّون من الرعب فتراهم يرشقونه بالحجارة وباللعنات.ويزدادون جنوناً كلما ابصروا الدم يسيل من راس وجسد المجذوم .
وفي بعض القرى التي ينتشر فيها السلاح كان السكان اذا ابصروا مجذوما خرجواله بالبنادق وراحوا يطاردونه ويطلقون عليه الرصاص وكأنه وحشٌ يستحق القتل.
وكثيرا ماكان المسافرون يصادفون في طريقهم رؤوساًمهشّمة بالحجارة ،واجساداً مثقوبةً بالرصاص .وكانوا يعرفون من الوجوه المشوّهة بأنها اجساد مجذومين .
ولشدة خوف المجذومين من غضب الاهالي كانوااذا تحركوا من مكان الى آخر يتحركون ليلا اما في النهار فكان عليهم ان يتجنّبوا المرور بالقرى وإن هم دخلوها ليتسوّلوا كسرة خبز يخرجون منها برؤوسٍ مكسورةٍ وبجروحٍ وخدوشٍ كثيرة وكان من النادر ان يمر مجذوم بقرية من القرى ويخرج منها من دون اصابات او لعنات.
كان رشيدالمطلس اثناء عودته من الراهدة قد التقى بثلاثة اشخاص غرباء مصابين بمرض الجذام ولشدة خوفه شدّ على حماره واعمل فيه مهمازه حتى يسرع بالوصول الى القرية ويعلن النبأ وكان وهو يبلغ الاهالي بخبر المجاذيم الثلاثة الذين التقاهم في طريقه كأنه يخبرهم عن طاعونٍ يقتربُ من قريتهم.
وبعد ان كان في طريقه الى المسجد لأداء صلاة العصر عاد الفقيه سعيد مسرعاً الى بيته، واغلق الباب خلفه ،وصعد الدرج الى السقف، ومن السقف صعد الدرج الى السقيفة .
ومن سقيفة بيته راح يصرخ بكل صوته طالبا من اهل القرية ان يهربوا من المجاذيم، ويعتصموا ببيوتهم، ويغلقوا الابواب على انفسهم .وحتى يقنعهم بخطورة الامر راح يستشهد بحديث عن النبي (ص)ويردِّدهُ لعشرات المرات :
— “من راى منكم مجذوماً فليهرب منه هروبه من الاسد “
وبعد ان تناهى الى اسماع اهالي القرية كلام الفقيه سعيد داخلهم شعور بالرعب ولشدة رعبهم تركوا اعمالهم، وتركواكل شيئ خلفهم وراحوا يركضون هاربين وعائدين الى بيوتهم .
ومن سطوح البيوت راحت الامهات يطلبن من اولادهن ان يسرعوا في العودة و ان يغلقوا الابواب خلفهم .لكن الاطفال راحوا يواصلون لعبهم غير مكترثين بكلام الفقيه سعيد ولابنداءات امهاتهم وكانوا يقولون لهن :
-لِمَوْ نهرب من المجاذيب مُوْ شفعلوا بنا ؟
وراحت الامهات من سطوح البيوت يوضّحن لهم بأن القادمين للقرية مجاذيم وليسوا مجاذيب . وبدافع الفضول توقف الاطفال عن اللعب ،وراحوا ينتظرون وصول المجاذيم ليعرفوا من هم هؤلاء الذين اثار قدومهم كل هذا الرعب !!وبسببهم تطلبُ منهم امهاتهم ان يتوقفوا عن اللعب، ويعودوا للبيوت قبل ان يحين موعد عودتهم .
كان الاطفال يعرفون المجاذيب ولايخافونهم. وكانت لديهم معلومات كثيرة عن مجاذيب ابن علوان ،وعن غيرهم .حتى انهم يعرفون اسماء بعضهم. اماعن المجاذيم فلم يسبق لهم ان سمعوا عنهم ،او ابصروا مجذوما مربقريتهم .لذلك كان ثمةفضول لديهم في ان يتعرفوا عليهم ويعرفوا الفرق بينهم وبين المجاذيب . لكنهم عند اقترب المجاذيم من الساحة وبعد ان ابصروا وجوههم المشوّهة لاذوا بالفرار ،وعادوا جميعهم الى بيوتهم باستثناء الثلاثة الشياطين المغضوب عليهم من قبل الفقيه سعيد .
و هم الشيطان :عبد الرحيم والشيطان :عبد المنّان، والشيطان :منصور .
ولم يكن السبب في عدم هروبهم هو انهم اقل خوفا من اترابهم .ولكن السبب هو انهم كانوا اكثرفضولاً، فضلاً عن انهم كانوا يكرهون الفقيه سعيد ،ولايطيقون سماع مواعظه، ولايصدقون مايقوله.
ونِكَايةً به رفضوا ان يعودوا الى بيوتهم رغم نداءات امهاتهم المتكررة لهم ،ورغم كل توسلاتهن لهم بالعودة .
يومها ثارت ثائرة الفقيه سعيد وقال مخاطبا امهاتهم من سقيفة بيته وهويستشيط غضبا :
-” المجذوم ملعون من الله ،ونبينا اوصانا نهرب منه ،ولانقترب منه ،ولانصافحه، ولانلامسه، ولانجالسه، لانه نجس وملعون لكن الظاهر ان اولادكن انجس والعن منه “
وكان لديه يقين بأن الشياطين الثلاثة :عبد الرحيم وعبد المنان ومنصور سوف يصابون بالجذام لكونهم خالفوا وصية نبيهم الذي اوصاهم بالهروب من المجذوم .
وحتى يبرئ ذمته راح يصرخ من سقيفة بيته
- اللهم اني بلّغت.. اللهم اني بلّغت.. اللهم اني بلّغت
وعندها اجهشت امهات الشياطين الثلاثة بالبكاء وكان صوت نحيبهن على اولادهن يُسمع في كل القرية .
كان الشياطين الثلاثة قدراحوا يقتربون اكثر واكثر من المجاذيم ،وكانوا كلما اقتربوا اكثر ابصروا وجوههم اكثر تشوّهاواكثر بشاعة. ولشدة رعبهم كانوا على وشك ان يلوذوا بالفرار.لكنهم وبالرغم من خوفهم من المجاذيم واشمئزازهم من بشاعة وجوههم واكُفّهم لم يكتفوا بأن ردُّوا السلام عليهم ،وانما راحوا يصافحونهم وفعلوا ذلك نكاية بالفقيه سعيد.
لكن امهاتهم عندما ابصرنهم يصافحون المجاذيم رحن يُوَلْوِلنَ، ويصرخنَ، ويلطمنَ وجوههنّ وكنّ على يقين من ان اولادهنّ بمصافحتهم المجاذيم سوف يلتقطون المرض اللعين وتحل بهم اللعنة : لعنة الجذام .
كان المجاذيم الثلاثة متعبين، ومرهقين، وجائعين .وكانوا قدراحوايشكون للشياطين الثلاثة كيف ان اهالي القرى التي مروا بها كانوا يلعنونهم ،ويرجمونهم بالحجارة، ويطردونهم، ولايسمحون لهم حتى بالبقاء للراحة تحت ظل شجرة اوفي ظل صخرة. وقالوا لهم :
- كنا كلما جزعنا من جنب قرية ردَسُونا بالحجار ولانلقى منهم لالُقمة ولاهُجْمَة.
وسالهم المجذوب الكبير إن كان بمقدوراهل القرية ان يتصدقوا عليهم بقليل من الخبز والقهوة !!
ومن دون ان يجيب الشياطين الثلاثة ب “لا” او ب “نعم “جروا مسرعين وصعدوا الدرب المؤدي الى القرية وقد وجدوا ابواب البيوت موصدة في وجوههم باستثناء باب بيت فازعة .
وكانت فازعة لحظتها في سقيفة بيتها تتلقّى الوحي .
قال لها الشياطين الثلاثة :
-” ياجدة فازعة المجاذيم جياع”
ومن بيت الجدة فازعة خرج الشياطين الثلاثة يحملون الفطير والحقين والقهوة
وعندما ابصرهم الفقيه سعيد خارجين من بيت فازعة ومعهم الطعام للمجاذيم جُنّ جُنونهُ، ولشدة غضبه من فازعة راح يلعنهاويصرخ فيها قائلا : - لعنة الله عليك يافازعة ياملعونة ..هاذُم مش هم مساكين تجوز الصدقة عليهم ..هاذم مجاذيم. ونبينا امرنا بالهروب منهم، لاان نتصدق عليهم. والصدقة الوحيدة التي يقبلها ربنا هي طردهم من القرية .
قالت فازعة ترد عليه :
-” اللي مايرحم يافقيه سعيد ربنا مايرحمه .”
وكان الوحي الذي تنزّل على فازعة يومها هو ان المجذوم يستحق الرحمة.