- كتب: محمد ناجي أحمد
بحسب صاحب “ذاكرة وطن” فإن صالح مصلح كان “رجلا ذكيا ومن الصعب، بل من المستحيل أحيانا، ان يدرك المرء نيته الحقيقية أو يسبر أغواره، أو الاهتداء إلى مواقفه السياسيةـ فهو يضع بيضه في سلة، لكنه في اللحظة الأخيرة يفاجئ صاحب السلة بسحب بيضه منها، تاركا إياه عرضة للندم والحسرة. هكذا فعل مع الرئيس الأول للجمهورية قحطان الشعبي، ثم كرر اللعبة مع سالم ربيع علي، وايضا مع عبد الفتاح إسماعيل ومحمد سعيد محسن ومحمد صالح مطيع، لكني لم أكن من النوع الذي يقبل هذا النوع من الألعاب الخطرة.”ص456.
لا شك ان شخصية صالح مصلح قاسم ومسيرة حياته النضالية ومغامراته ورؤيته ومفاهيمه الوحدوية بكل عنفوانها واندفاعها ومنظورها العنفي المقابل لعنف التفيد والغنيمة الذي تتبناه قوى المشيخ في جمهورية 5نوفمبر، وصولا إلى قتله غدرا في 13يناير 1986أثناء حضور اجتماع المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، من قبل الحارس الشخصي للرئيس علي ناصر محمد، الذي بادر بقتله وقتل علي عنتر- لا شك أن حياته غنية ومثيرة كسردية لم تكتب بعد، وهي إلى الآن مجرد نتف حكائية مبعثرة، يذكرها أصحاب المذكرات عَرَضَا مما يستدعي من الروائي والمؤرخ أن يسعى للملمة حكاية رجل كل مغامراته وبطولاتها ومعتقداته وطريقة تفكيره تدل على شخصية أسطورية بشجاعتها وتحركاتها في كل الجغرافيا اليمنية، التي كان مؤمنا بأنها وطنه الذي يتسع لآماله ، فقد حفر فيها معالم عديدة، في النشاط المسلح لمنظمة المقاومين الثوريين واغتيال الغشمي ومقتل سالمين والجبهة الوطنية والمواجهات المسلحة بين الشطرين وصولا إلى13يناير 1986م.
كان صالح مصلح مع الخيار العسكري في تحقيق الوحدة اليمنية، لعلمه أن قوى المشيخ في الشمال سيرفضون الوحدة بالطرق السلمية، لأنهم يريدون وحدة ضم الفرع إلى الأصل، وقد قرروا ذلك في مجلس الشورى برئاسة الشيخ عبد الله بن حسين الحمر عام 1972م.
يرى صاحب “ذاكرة وطن” أن صالح مصلح “كان وحدويا من طراز غريب، لا يتوانى عن الإقدام على كل ما يعتقد أنه سيؤدي إلى تحقيق الوحدة، حتى لو تطلب الأمر منه أن يضحي بأعزّ أصدقائه! وفي إحدى المرات زار علي ناصر ومعه ابنه “لحسون”، وقال له إن ابنه على استعداد أن يقوم بمهمة انتحارية لاغتيال الرئيس علي عبد الله صالح في أثناء أحد العروض العسكرية في ميدان السبعين، ولكنه يطلب الإذن من الرئيس علي ناصر شخصيا.
والابن لم يكن أقل إيمانا بالوحدة اليمنية من أبيه، فقد أراد أن يخلِّد اسمه كشهيد انتحاري من أجل قضية سامية ولو بوسيلة مغايرة للسمو الوحدوي!
رفض علي ناصر ذلك الطلب فقد كانت طريقة التخلص من سالمين بقتل الغشمي ماثلة أمام عينيه!.ص464. وانتهى الحديث بينهما باستبصار لا زال علي ناصر يتذكره، حيث قال له :”إنك إذا لم تحكم اليمن، فإن علي عبد الله صالح سيحكمها ونخسر جميعا.”ص463.
لقد كانت أيديولوجيا صالح مصلح هي الوحدة، وبالتالي فهي المفتاح الرئيسي لقراءة الأحداث التي كان من ورائها، مما يجعلنا نطلق عليه بـ”جيفارا الوحدة اليمنية ” بامتياز.
يزعم علي ناصر محمد أن أبناء الشمال شاركوا في سلطة جمهورية اليمن الديمقراطية لعضويتهم في حركة القوميين العرب والجبهة القومية وحزب الوحدة الشعبية. وهو هنا يتحدث من منظور جهوي ناقدا ضمنيا لهذه الشراكة، لكنه يتجاهل أن هذه الشراكة كانت مبنية على انصهار في مدينة عدن التي عملوا فيها وناضلوا من خلال العمل النقابي ثم الفدائي، والذي تبوؤا فيه موقع القيادة، وقدموا التضحيات من موقع النضال الوطني اليمني ضد الاستعمار لا من موقع مناطقي جهوي، من هنا كان حضورهم القيادي في حركة القوميين العرب والجبهة القومية والتنظيم السياسي الموحد والحزب الاشتراكي اليمني.
إن قراءة خارطة السلطة وفقا لتوازن المناطق والجهات كما يفعل صاحب “ذاكرة وطن” يعكس عقلية بدوية تستخدم بكل مكر كل الوسائل ولو أشدها تخلفا من أجل إزاحة الخصم من سلطة الدولة وسلطة الحزب وسلطة التاريخ!.
التقى الرئيس علي ناصر محمد بعبد الفتاح إسماعيل في موسكو في اكتوبر 1984م، وطلب منه الأخير أن يرافقه في رحلة العودة إلى اليمن لكن علي ناصر رفض ذلك، وحين وجد أن عبد الفتاح مصرا على العودة قام تحذيره بلغة تهديدية، فقد اقنع علي عنتر “عبد الفتاح”في خريف 1983م أن يعود إلى اليمن، وكان نايف حواتمه موجودا في موسكو وساهم في إقناع عبد الفتاح بالعودة، فكل الكوارث في جمهورية اليمن الديمقراطية تمر من مشورات نايف حواتمه بحسب علي ناصر ، بل إن عبد الفتاح إسماعيل يبدو لعبة ودمية مغفّلة بيد نايف حواتمة والـ “كي جي بي” بحسب ما يكرره مرارا علي ناصر محمد في كتابه هذا !
حذر “علي ناصرمحمد” عبد الفتاح من العودة قائلا له إنك لوعدت إلى الوطن فلن تستطيع الخروج سالما مرة أخرى. في إشارة إلى أن خروجه الأول سالما كان بسبب موقف علي ناصر الرافض لقتله!.
ويورد علي ناصر توصيفا لـ “كارين برتنتس” (مساعد مسؤول العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي السوفيتي) أنه قال عن عبد الفتاح ” هذا الشخص غارق في ذاته حتى أذنيه”ص457. لكن “كارين برتنتس” في فيلم وثائقي عن مجزرة 13يناير قيل له ما كتبه علي ناصر في مذكراته نقلا عنه، وما كتبه عن خطة وضعتها الـ “الكي جي بي” من أجل إعادة عبد الفتاح والتخلص من علي ناصر محمد، فقد وصف كارين برتنتس ما قاله علي ناصر محمد بالكذب، وكان حديثه عن عبد الفتاح إسماعيل حديثا عن قائد ثوري متميز.
وقد سخّف كارين حكاية الحصول على الخطة داخل السفارة السوفيتية وقال بأن ذلك من اختلاق المخابرات الأمريكية التي أشاعت حكاية تلك الخطة المختلقة، فمنطقا لا يمكن أن توجد خطة بتلك التفاصيل وتترك داخل السفارة، ومنطقا وعقلا فالسفارة لم تُهجَر في أحداث 13يناير حتى يدخل صحفي مغمور ليأخذ تلك الخطة ويخرج!
يقول الرئيس علي ناصر محمد لـ “عبد الفتاح إسماعيل” :”ما دمت مصرا على العودة إلى اليمن فأهلا وسهلا بك. بإمكانك أن تعود وقت تشاء. ولكنني أرى من واجبي أن أقول لك إنني أخشى ان يكون هذا آخر سفر لك إلى خارج الوطن. إنك تحفر قبرك بيدك، وعليك أن تتحمل نتائج اختيارك وقرارك. فأنت لا تعرف على ما يبدو شيئا مما يدور في عدن!!…”ص458.يحيل علي ناصر الانقسامات التي حدثت داخل الحزب الرغبة في الاستحواذ على السلطة، وإلى أيد خفية إقليمية ودولية. ويشير إلى اتصال من الرئيس علي عبد الله صالح يخبره فيه عن وجود معلومات استقاها من الملك فهد ومن الرئيس حسني مبارك محتواها أن إسرائيل ستقوم بضرب المعسكرات الفلسطينية في عدن. فقام علي ناصر بإخبار صالح مصالح من أجل أخذ الاحتياطات إلاَّ أن تحريك صالح مصلح قوات المدرعات كان بدافع خطة داخلية للتخلص من علي ناصر وليس من أجل صد أي هجوم جوي من إسرائيل، كما يرى علي ناصر! كان ذلك قبيل أيام من أحداث 13يناير.
بالرغم من حديث علي ناصر في كتابه هذا عن أن التسريب الخاص بهجوم إسرائيلي على المعسكرات الفلسطينية في عدن كان جزءا من الخطة والاستعدادات للتخلص من علي ناصر محمد، وبالرغم من أن توصيف التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية التي يتحدث عنها علي ناصر لجيش جمهورية اليمن الديمقراطية بأنه جيش فتي ويشبه الجيش الإسرائيلي من حيث تكوينه القتالي وما يملكه من ترسانة عسكرية وصواريخ تجعله قادرا على السيطرة والتحكم في الملاحة في باب المندب والذي تعتبره إسرائيل يمس أمنها الاستراتيجي في المنطقة، وبالرغم من أن النتائج كانت تفكيك هذا الجيش بحرب 1994وتدمير ترسانته الحربية ومعسكراته ومخازنه، ومع ذلك فإن علي ناصر يرى أن المؤامرة سوفيتية!
كان الاتحاد السوفيتي في مرحلة انكماش، فمع رئاسة ميخائيل جورباتشوف كانت مقدمات تفكيك ذلك الدب القطبي تسير بخطوات متلاحقة من خلال ما سمي حينها بالمكاشفة والمصارحة “الجلاصنست” وإعادة البناء “البروسترويكا” وبالتالي ما كان الكي جي بي في حالة مد وإنما انكماش مما يعني أن اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين الذين من مصلحتهم تدمير الدولة والحزب والجيش في جمهورية اليمن الديمقراطية هم أولئك الذين يسيرون في فلك الولايات المتحدة، ولعل موقف الولايات المتحدة الداعم لحرب 1994 وتدمير الجيش وترسانته العسكرية أبلغ لغة من التهويمات والمداورة!
بحسب ما يقتبسه علي ناصر نقلا عن جار الله عمر من حديث للأخير في جريدة “الخليج” يورد فيه انحياز الأخوة من الجبهة الوطنية وحزب حوشي إلى جانب علي ناصر محمد، وهم “محمد قاسم الثور، وسلطان أحمد عمر، محمد السلامي، عبد الله صالح عبده، مجاهد القهالي، حسن شكري، وإلى حد ما عبد الحافظ قائد، فيما انحاز عبد الواحد المرادي، حسين الهمزة، احمد عباد شريف إلى صف علي عنتر وعلي سالم البيض والآخرون…كنت محايدا في بادئ الأمر أحاول أن أوفق بين الطرفين…ولكن ضغط علينا ووجدنا أنفسنا صالح مصلح ويحيى الشامي وأحمد علي السلامي وناجي محسن الحلقي وأنا وآخرين في نهاية المطاف إلى جانب علي عنتر وعبد الفتاح إسماعيل والآخرين”.ص464.
ينفي علي ناصر أن يكون جار الله عمر محايدا في الصراع، فيقول :”أعتقد أن جار الله عمر وصالح مصلح والآخرين معهما لم يكونوا محايدين، بل كانوا يعملون على برنامجهم الخاص الذي يميل إلى برنامج علي عنتر، ويتكئ عليه للقفز على السلطة بديلا للطرفين وتحقيق الوحدة على طريقتهما.”ص465.
يرى علي ناصر محمد أن أحداث 13يناير 1986 ليس وليد اللحظة “بل هي تراكم بلغ مداه، واختلالات اتخذت أشكالا عديدة من الصراعات السياسية التي كانت سرعان ما تتطور إلى أشكال من العنف أكثر من أي عنصر آخر لتأكيد تفوق الأقوى وتعزيزه”ص479.
لكن من أطلق الرصاصة الأولى في أحداث 13يناير 1986 إثمه أعظم من أولئك الذين ينسب لهم خططا ونوايا لم يتم ترجمتها داخل اجتماع المكتب السياسي وفي الإعدامات الجماعية!
ما صنعه علي ناصر محمد هو أنه أطلق رصاصة الغدر في جسد حزب مزقته الصراعات وأنهكته عوامل مجتمع يعاني من الفقر والتخلف وشحة الإمكانيات وقيادة تعيش داخل النصوص أكثر من التحامها بقوانين المجتمع، في جغرافية هي في الأساس جغرافية أمنية، لا تستطيع الامبراطوريات العظمى في ظل حرب دولية وإقليمية ومحلية باردة وساخنة تركها وشأنها…