- عبدالرحمن الدغار
أنا مواطن من دول العالم الثالث أعيش في مدينة ليست كمدينتك (فيينا)،
فيينا مدينة المرح وعاصمة الموسيقى، المدينة التي مر منها موزارت وبيتهوفن والكثير من العظماء وتركوا فيها بصمات خالدة
المدينة التي كانت مسرحا للكثير من أحداث رواياتك وفيها عشت الكثير من تفاصيل حياتك ،
المدينة التي نبض فيها قلبك لأكثر من امرأة ولكن لم تحبك فيها سوى امرأة واحدة تجاهلتها كثيرا ربما بقصد أو بدون،
تلك المرأة هي فتاة مجهولة الهوية أحبتك وهي في الثالثة عشرة من عمرها إذ كانت تسكن هي وأمها بجوار شقتك،
سأحدثك عن تلك المرأة المجهولة وأنا على علم أن رسالتها قد وصلت إليك لكنني أفعلها مرة ثانية لأذكرك بجريمتك التي ربما لم ترتكبها عن قصد، لكي لا تتكرر مثل هذه الجرائم مرة أخرى،
تلك الفتاة تمكن منها الحب حتى صرت أنت كل تفاصيلها ،كانت تقضي جل وقتها بمراقبتك أثناء خروجك ودخولك من الشقة وتبقى في إنتظار قاتل حتى مجيئك لتحظى برؤيتك ولو لمرة واحدة،
كانت تراقب كل حركاتك وسكناتك من ثقب مفتاح الباب،حدث كل ذلك وأنت لم تفطن أبدا إلى تلك العينين المعلقتين بك أو ربما أنك تعاليت عليها إذ كنت ترى أنها فتاة فقيرة وبسيطة وأنك من طبقة الكبار ولديك فائض من الأجساد الناعمة من حسناوات فيينا،
هل تدري يا ستيفان بأن الفتاة منذ أن وقعت في فخ حبك بدأت تهتم بتعليمها وأصبحت الاولى في فصلها وأيضا قرأت الكثير من الكتب وتعلمت الموسيقى ظنا منها أنها ستلفت انتباهك وتصبح قريبا لقلبها لكن كل ذلك لم يجد نفعا،
كانت تسامر الليل والوحدة والوحشة والحنين واللهفة وهي في انتظار مجيئك لكنك كنت تأتي متأبطا يد سيدة تقضي معها ليلتك بسعادة
لو تدري كم أن جنونها بك كان يجعلها تلثم زر الباب الذي تلمسه يداك وكم كانت تقبل أعقاب سيجارتك الذي كنت ترميه قبل دخولك لشقتك وكم أنها كانت تنزل للشارع في الليلة الواحدة أكثر من مائة مرة لتشاهد من أي غرفة من غرفك ينبعث النور ، كانت تفعل كل ذلك لتشعر بحضورك في حياتها وهي الغياب الأبدي بالنسبة لك،
حينما قررت أمها الزواج والمغادرة من البناية التي كنت تسكن أنت فيها اظلمت الدنيا في عينيها وفقدت وعيها وتبددت كل أحلامها المؤجلة ، لم تكن تدري أن حلمها بك سيستمر تأجيله حتى الأبد،
غادرت الفتاة وهي منهكة القلب والروح والجسد، غادرت لتعيش هناك حياة قاتمة السواد وعزلة غير مفتوحة كسجينة منبوذة لمدة عامين، عامين من الحداد عاشت فيه أقسى أنواع الحرمان،كانت تسلي خاطرها بالتفكير فيك وشراء كتبك لدرجة أنها حفظت كل كتاباتك ورواياتك،
وبعد عامين عادت فتاتك المجهولة إلى فيينا وأول ما فعلته هو الذهاب للوقوف أمام العمارة ومشاهدة شقتك التي كانت مضاءة حينها شعرت بروحها تستأنف الحياة من جديد، وبقيت كل ليلة تذهب إلى نفس المكان لتقف بالطريقة ذاتها ثم تعود إلى مسكنها،
أكثر من مرة بعد عودتها من مدينة انسبروك إلى فيينا كانت الفتاة تقابلك في الشارع وكم كان بودها لو أنها تحظى بنظرة منك تشعرها بمكانتها وقيمتها لديك لكنك لم تفعل وجعلتها تشعر بخيبة أمل لا يمكن أن تنساها على الإطلاق،
وبعد فترة منحتها نظرة أشعرتها بالألفة وأيقظت فيها الحياة كانت روحها تحلم بكلمة منك كانت في إنتظار ثمرة سنواتها العجاف، السنوات التي أورقت بالكثير من العذاب والحنين والأحلام والشوق والوجع
فجأة هطل صوتك على ثرى روحها التي أنهكها الظمأ فأخضرت كل أغصانها اليابسة ومضيتما إلى المطعم ثم بعد ذلك إلى البيت،كانت ليلتها الأولى معك ، الليلة التي انتظرتها عمرا من الوجع والشوق، ربما كنت تظن أنها فتاة شوارع حينما منحت لك نفسها دون مقاومة ولم تكن تدرك أنها فعلت ذلك لكي لا تكتشف حبها لك، لأنها كانت تعرف أنك لا تحب أن تربط نفسك بمصير محدد وأنك من النوع الذي يحب أن يتذوق متع الدنيا كلها دون قيد أو شرط وبدون تضحية،
ثلاث ليال فقط قضتها معك فأنجبت منك طفلها الذي اصبح بالنسبة لها كل شيء لأنها أنجبته منك، فعلت كل ذلك لتشعر أنك قريب منها وأنك مسجونا في جسدها وتشعر بك في شرايينها تحيا وتكبر وهي تطعمك وترضعك وتمنحك القبلات لكن ذلك الشعور لم يلبث إلا أشهر معدودات ثم تلاشى بموت الطفل الذي رحل وتركها وحيدة مرة أخرى تعيش أوجاعها من جديد،
يا له من شعور مؤلم حين يخذلك القدر ويأخذ منك سندك الوحيد وأملك الذي تعلقت به ،
مرة أخرى تقابلتما ومنحتك ذاتها لكنك لا تزال تجهلها ،مازلت تتجاهل طفلة الثالثة عشرة سنة ،ابنة جارتك، الفتاة التي كانت عيناها تحاصرك أثناء خروجك ودخولك إلى شقتك، الفتاة التي نامت معك ثلاث ليال متتابعة ثم ليلة أخرى الفتاة التي رأيتها في الملهى الليلي،
مازلت تتجاهل يا ستيفان كل تلك التفاصيل لكنك لن تجد هذا العام ورودك البيضاء التي كانت تأتيك كل عام كهدية مجهولة بمناسبة عيد ميلادك ، ستفتقد تلك الورود وأنت تقرأ رسالتها لتعرف كم أن قلبا أحبك بكل مشاعره المجنونة وأنت لم تمنحه لحظة حب صادقة ،وكم أن قلبا عاش أياما من العذاب وهو يواسي ذاته أنك قد تتخلى عن تجاهلك وتفعلها حين حب، كان هذا القلب يبرر لك تجاهلك ويرحل أحلامه بك يوما بعد يوم ،
ماتت فتاتك المجهولة التي أحبتك أكثر من كل النساء ولم تعرفها ألبتة ، ماتت دون أن تكف عن انتظارك يوما واحدا وأنت لم تطلبها أو تناديها ولو لمرة لكنك الآن حتى وإن ناديتها فإنها لن تسمعك أو تجيبك لأنها أصبحت في قبرها،لم تترك لك أي صورة أو هوية لأنك لم تترك لها أنت أي شيء، ولن تتعرف إليها أبدا لأنك لم تفعلها طوال كل تلك السنوات، ستذهب مرتاحة البال دون أن تعرف إسمها لأنك بعيد عنها كما كنت طوال معرفتها بك،
وداعا يا امرأة أنبتها العذاب على تراب هذه الأرض
وداعا يا امرأة الوفاء والنقاء والإخلاص والحب
وداعا يا طفلة العذاب والجراح والألم