- نبيل الشرعبي
كان يبتسم ويشعر بـ إرتياح وهو يتحدث على المذيع الأشهر ماجد سرحان_ رحمه الله.
وبصوت خافض يتحدث قائلاً: كنت أعشق صوت ماجد سرحان وأحرص على متابعة نشرات الأخبار التي يقدمها عبر أثير إذاعة لندن، والتي كان يُعد الاستماع لها مممتع للغاية رغم كوني طفل.
يصمت ويأخذ نفساٌ عميقاً، ثم يقول “هنا لندن_ ماجد سرحان يحييكم”. يسألك هل كنت تسمع إذاعة لندن وماجد سرحان، فتجيبه نعم. يزداد بهجة ويسألك مرة آخرى هل استطعت تقليد ماجد سرحان.
يتأوه وبهمس يقول كانت أيام جميلة، ويواصل حديثه على ذكرياته مع الصندوق السحري_ الراديو، كان معنا بالبيت راديو إطاره خشبي وكنت أوفر من مصاريفي ثمن بطاريات للراديو الذي أخذه معي عصر كل يوم دراسي وأذهب للحقل لمراجعة الدروس ومن ثم الاستماع للأخبار القادمة عبر أثير إذاعة لندن وصوت العرب ليثري معلوماته وينقل بعض منها في إذاعة المدرسة..
حدثني على شغفه بالفن وحرصه على إقتناء النسخ الأصلية لتسجيلات أغاني أم كلثوم والعندليب عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش و…إلخ..
كان يجمع مصاريف التي تُمنح له للمدرسة، وعند حلول اليوم الأول للعطلة الدراسية يأخذ ما جمعه وعلى أول سيارة يغادر بلدته الريفية الهياجم في شرعب الرونة_ محافظة تعز، نحو المدينة ليشري كاسيتات أغاني لأم كلثوم وكذلك للفنان أيوب ولا ينسئ شراء كاسيتات للمقرئ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد..
كان مزيج من الروحانية الإيمانية والروح العامرة بالفن الذي يلامس شفيف الروح.. ولذلك لم يكن ليصلي فرض إلا بالمسجد حتى أخر لحظات أيامه ولا يختلق عذر للصلاة بعيداً عن المسجد_ رحمه الله..
خلال ثلاثة أعوام في زمن الحرب التي تعصف باليمن، جلست إليه عن قرب ومكثنا أيام كثيرة معاً.. وجدت روح الإنسان المعجون بالنور، وخُلق الفلاح المرتبط بالأرض والزراعة والعمل الجاد، ودماثة العالم المتقد بالعلم النافع، وتواضع المثقف المفعم بالحب للخير والسلام..
كنت استدرجه في لقاءاتي للحديث عن طفولته المتفتحتة على العلم وحب المثابرة والتفوق وبتواضع جم يطربني بالحديث على ذكريات طفولته المليئة بمحطات ممزوجة بعبق بيئته_ شرعب الرونة وريادة المعرفة القادمة من مدينة الحالمة تعز..
أيضاً تفاصيل كثيرة حاكتها هدهدات النور المتدفقة من روحه وعلى مدى طوال ثلاث سنوات ظفرت بالعيش خلال أيام كثيرة منها بمعيته أخي وصديقي ومعلمي عبدالعزيز اليهاجم_ رحمة الله تغشاه.
بفخر حدثني على عصامية والدته رحمها الله والتي سبقته إلى عالم النور بحوالي عام.. كان دائماً ما يقول لي ووجهه يتهلل بهجة، كانت والدتي الغالية لا تتساهل معي وإخواني حيال التعليم رغم أنها لم تحظى بفرصة الإلتحاق بالتعليم..
صديقي وأخي عبدالعزيز الهياجم، كان قبل أن يصل إلى محطة إغتراب والده والذي أيضاً سبقه إلى عالم النور بأشهر، يخفت صوته ثم يقول الظروف أجبرت والدي حفظه الله على الإغتراب، لتقوم أمي الحبيبة بدور الأب والأم معاً، لقد كانت أمي تقوم على الأرض وعلى تربيتنا وتعليمنا ولم تشتكي يوماً من ثقل الحمل الذي وقع عليها، بل العكس كانت تعتز بما تقوم به وترسم لنا فرحة والدي حين عودته من الغربة ليجدنا وقد إلتحقنا بالتعليم وتفوقنا، ووفاءاً لوالدي وحرصها على تعليمنا كانت ترفض أن ننشغل بغير التعليم حتى في مساعدتها بفلاحة الأرض وتربية المواشي..
حدثني على فرحته بأول هدية منحت له من والده بمناسبة نجاحه بتفوق في أول عام دراسي، قال لم أنسئ تلك الهدية وهي كاميرا يدوية قديمة طلبتها عندما خيروني بين دراجة هوائية أو هدية أخرى، وبضيف إلتقطت بها صور لبلدتي الريفية.. يتوقف ثم يقول بحزن كم أنا حزين لأن الصور التي إلتقطتها تعرضت للتلف..
كذلك تحدث لي على علاقته الحميمة بشقيقه الأكبر وحبهما لبعض كأنهما أصدقاء إذ الأطفال ينسجمون مع أصدقائهم أكثر من الإخوان الذين يحكمهم الرسميات..
ذكريات كثيرة حدثني عليها أخي وصديقي عبدالعزيز_ رحمه الله، بداءً من طفولته حتى الأيام التي سبقت جلوسي بمعيته..
طوال ثلاثة أعوام لم يتجاهلني ولم يعتذر يوماً عن إنشغاله بعملٍ ما، بل كان يبتهج بقدومي وينهي عمله سريعاً لنواصل سرد ومضات حياتنا بحلوها ومرها..
كان يوجعه التوقف على رحيل زوجته الأولى وذكرياتهما وتعلقها بوالدته وتعلق والدته بها، وهي التي جمعت بين الخصال الكريمة للريف والمدينة..
يشرد لوهلات ويعود متأسفاً، ليسرد كيف كان يتلهف للعودة إلى قريته ليعيش أجواء معفرة بروائح الريحان والمشاقر وأقراص الرغيف التي تصنعها والدته وزوجته وكذلك الحقين الممزوج مع البسباس وورق العنب والكمون وقهوة الصباح ودخان الموقد الحجري الذي يتصاعد صباح كل يوم باكراً ومحطات تستهويه وتأسره كما هي علاقته مع أولاده الذين تشعر بأنهم يعيشون حالة تناغم وكأنهم أصدقاء تكتظ حياتهم بالحب والتقدير..
هذا هو الصحفي عبدالعزيز الهياجم رحمه الله. خريج كلية الإعلام بجامعة صنعاء، عمل محرراً صحفياً بصحف يمنية ووصل إلى تولي مدير تحرير الثورة نت الرسمية، كما عمل مراسلاٌ لوسائل إعلام عربية وعالمية وكان أول وأنجح مراسل لقناة “R T” الروسية الناطقة بالعربية التي سرحته جراء وشاية كاذبة ودون أي حقوق..
حزين لرحيلك أخي وصديقي ومعلمي عبدالعزيز_ رحمة الله تغشاك، وحزين على إنغلاق نافذة الضوء التي كنت أطل منها على صدف فؤادك الكثير والبهي والنقي..
معذرة صديقي إن تعثرت أحرفي الصغيرة في تضميد كسر روحي بفقدانك الموجع.. ولا أخفيك أني صرت ركيك بدونك.. أوووه هل أرثي نفسي التي غدت وحيدة فقد أجبر الظلام أخي وصديقي محمد عيضه على مغادرة صنعاء مكرها وزملاء أخرين علا ووليد وعصام وعبدالجليل وصقر…إلخ، أم أرثيك وأنا الهصير الجناح المتكسر على مداخل الوجع..
رحمة الله تغشاك صديقي عبدالعزيزً وعزائي خالص لأسرة الهياجم كافة ولي ولكل الأصدقاء والأسرة الصحفية واليمن..
شهر على رحيلك الموجع يا صديقي وما زلت أحتفظ بمحادثاتك ورقم هاتفك، بل حتى بهمس صوتك العذب وتضاريس وجع روحك المتصوفة الزاهدة.