- د. عبدالعزيز المقالح
بعد أن أثرى وجداننا وأمتع أبصارنا بما أبدعه من لوحات ومنحوتات ارتقت به إلى
مصاف كبار الفنانين العالميين ، رحل الفنان الكبير هاشم علي ورقدت ريشته
الذهبية إلى جواره ، في رحلة صاعدة نحو عالم الخلود والبقاء .
وبذلك
يكون الفن التشكيلي في بلادنا قد فقد أباه الحقيقي ، وأصبح يتيماً يتلفت في حسرة غير مسبوقة باحثا بين زملاء الراحل الكبير وتلاميذه عمن يواصل رحلة
الألم والعذاب ليثبت لهذا الوطن وللعالم أن الفن لا يموت .
لم يكن هاشم الذي انطوت ريشته منذ أيام مدرسة في الإبداع وفي تأسيس الفن التشكيلي في
البلاد فحسب ، وإنما كان أيضا مدرسة في الأخلاق والحب الإنساني الرفيع ،
عاش مخلصاً لفنه ولوطنه ولفكرة الحب للجميع التي امتلأ بها قلبه ، فبات لا
يفرق بين قريب وبعيد ، بين خصم وصديق ، عندما ألتقيته لأول مرة عجبت من
سلوكه العالي وتساءلت كيف تعيش الملائكة على الأرض ، وكيف يقبلون بسماحة
ورضا أن يتعايشوا مع أنواع من البشر مهمتهم أن يجعلوا الحياة رحلة عذاب لا
تطاق ؟ ولا عجب أنني في كل المرات التي سعدت فيها بلقائه لم أجده إلا
مبتسماً بوقار ، وقيل لي أن تلك الابتسامة البديعة والطالعة من قلب لا
تفارق شفتيه ، حتى وهو يعاني الآم المرض الذي كان لا يكف عن زيارة جسده
النحيل .
لم يكن هاشم علي يدعي الانتماء إلى أي نظرية نظامية للفن
التشكيلي مع ملاحظة أن خطوطه الدقيقة والتنوع في مستويات لوحاته تؤكد أنه
أستوعب كل النظريات الفنية القديمة منها والجديد ، وأنه استخلص منها كلها
رؤيته الخاصة واختياراته المتميزة في بناء لوحاته البديعة التي كانت تقتضي
منه وقتاً طويلاً ووعياً دقيقاً بوظيفة الألوان وتناغم الجمال ، لذلك كأول
ما يدهشك في هذه اللوحات التناسب والتناسق والاهتمام بالتفاصيل العميقة
والمنمنمات الدقيقة ، وهو ما يؤكد بوضوح أنه لم يكن يرسم إلا عن شغف وهواية كسرت كل تحديات الاحتراف وذلك ما يميز الفنانين العظام عن غيرهم من
الفنانين الذين يتعلقون بهذا النوع من الإبداع وهم لا يمتلكون الموهبة التي ترقى بهم إلى حيث يحلمون .
وبالمناسبة لا اخفي انه رسمني بمحبة فائقة
في لوحتين بديعتين إحداهما جدارية كبيرة والأخرى أرادها غلافاً لكتاب عن
سيرتي الذاتية إذا ما ظهرت وقد أرفقهما بإهداء عذب وجميل ( من اللوحة إلى
القصيدة ومن مفردات اللون إلى مفردات اللغة ) . وأدركت حينئذٍ من لغة
الإهداء كم كان الفنان الرائع مثقفاً وقادراً على رسم أجمل العبارات
بالموهبة نفسها التي جعلت منه فناناً يشار إليه بالبنان . وتأكد لي كذلك ما يذهب إليه بعض دارسي الفن التشكيلي من أن اللوحة تتمثل في وجدان الفنان
على شكل مفردات لغوية قبل أن تتجلى في الخطوط والفراغات والألوان . ومن
متابعتي لأعمال هذا الفنان الكبير وللوحات التي رسمها لأصدقائه وهي قليلة
ونادرة أنه كان يكره الكاميرا ويسعى إلى أن يجعل اللوحة تقول مالا تقوله
الصورة المنقولة بهذه الآلة الجامدة .
لقد أبدع الفنان الكبير هاشم علي خلال خمسين عاماً هي تاريخ عمره الفني ، مئات اللوحات التي جسدت مشاعره
تجاه الوطن بمناظره الخلابة الساحرة ، وتجاه الناس والطبيعة والأشياء
والنبات . كان فناناً أصيلاً وبارعاً في لوحاته الكبيرة والصغيرة على حد
سواء ، ولم يعرف العبث أو “الاستسهال” لهذا فقد كان عسيراً على الآخرين
تقليده أو نسخ لوحاته ومهما كان حظ المقلد أو الناسخ من الموهبة ، وكان
فيما يبذله من جهد ووقت في إنجاز لوحة ما يجعل منها قطعة فنية راقية ومميزة لا تشير إلا إلى صاحبها ولا تحمل سوى بصمته الرائعة والمعاني الجميلة التي تمتلئ بها روحه وما تضيفه تلك الروح الجميلة على العمل الإبداعي من نظارة
وإشعاع .
لقد فقدت البلاد برحيل هاشم علي فناناً رائداً ومبدعاً أصيلاً لم تكن أعماله على مستوى وطنه اليمن وأمته العربية وحسب وإنما على مستوى
العالم بشهادة كبار نقاد هذا الفن ومبدعيه وبما أننا لا نتذكرإلا الموتى
فهل يتزامن هذا التذكر مع إطلاق اسم الفنان الكبيرعلى ثلاثة شوارع في كل من صنعاء وتعز وعدن ؟ سؤال الإجابة العملية عليه معقودة بناصية القائمين على
شئون المدن الثلاث ،وهم ممن يقدرون الإبداع وأهله .
تأملات شعرية :
كيف أرسم بالكلمات الفقيرة
من رسم الحب بالضوء واللون
بالريشة الذهبية
صور أحلامنا
وشجون الوطن ؟!
موحش وجه صنعاء بعدك
وجه تعز التي احتضنت
حلمك العبقري
ووجه عدن ؟