- ضياف البراق
أعشقه إنسانًا، وشاعرًا، وفيلسوفًا. وهو، بلا شك، الصحافي اللبناني الكبير،
والمشهور كثيرًا، الذي أعطى كل حياته من أجل ارتقاء الثقافة العربية. إنه
نجمٌ حداثي، استثنائي الشخصية، تجاوز المألوف، كل المألوف، فكان هو ذاته
الحرية. يكفي أنه كان صاحب قيم مطلقة!
مرة قال الشاعر السوري
الكبير، محمد الماغوط، في مقابلة متلفزة: «الحرب قد لا تُبكيني. أغنية
صغيرة قد تُبكيني، أو كلمة لأُنسي الحاج». أمّا أنا.. فتُبكيني كل كلمات وتفاصيل حياة أنُسي الحاج. أتحدث عن البكاء الجمالي، طبعًا.
هذا المثقف الثوري المجنون، أو أنُسي الحاج (1937 – 2014).. كم جعلني أعشق الحرية!
كتابته، شعرًا ونثرًا، هي دموعه التي تحترق باستمرار، آماله التي تحترق
بوحشيّة نزيهة.. تحترق لتُضيء عتمةَ الآخرين، أو لتُضيء ظلمة الوجود كله.
كتابته عارية من الانسحاق العبودي، أو الانهزام الفكري، وممتلئة بالشفافية
والحكمة. كتابته بلا قيود، بلا خوف، بلا ماضي. أجمل ما فيها، الجنون
والصدْق. هو المتوحش في الكتابة، والمتوحش في حبه للمرأة والحياة. والأهم
من ذلك، أنه كان يؤمن بالإنسان قبل كل شيء، واعتبره قيمة مقدسة لا أغلى
منها.
عن الكتابه، يقول أُنسي إنها “فِعْل تخريبي”، وفعلًا كان هو نفسه كاتبًا تخريبيًا، ومن الطراز الأول.
كم بكيت وأنا أقرأ رسائله إلى غادة السمّان!
الرجُل، هذا، متمرد كبير، شفّاف دومًا إزاء نفسه، بل إزاء كل شيء. ولا مرة لطّخ نفسه بالسياسة، وكذلك لم يكن تابعًا ولا ثرثارًا ولا حاقدًا على أحد
من أخصامه، ولا يطيق اللهث وراء الأضواء والعبث بالذات من أجل الفوز
بالشهرة. عاش حتى الموت، موته، وهو يناضل في مستوى الحب والحقيقة.
كانت الكلمة العظيمة هي سلاحه في كل مراحل حياته. أمّا فرادته الإبداعية
النادرة، هي ضميره الحي، نقاؤه المطْلَق، صمتُهُ الخارق، وعطاؤه الخلّاق.
لقد كتبَ أُنسي بلغة تمرديّة مفعمة جدًّا جدًّا بالحرية، لغة مختلفة وعميقة كليًّا.. إذ تخلو كل الخلو من فظاعات التقليد والتكرار والخنوع.
أجل، لم يكتب بلغة جامدة ولا برانيّة على الإطلاق.
أيضًا، أعشق جرأته التامة على الكتابة التي لا تعترف بالتابو (الممنوع!)،
أيًا كان نوعه وحجمه. ومن لم يقرأ (خواتم) أنسي الحاج، لن يُقدِّر أهميّة
هذا المثقف الإنساني الفذ، أو الشاعر الخَطِر!
أتساءل: هل كان أنسي الحاج متصوفًا؟!
برأيي، كان متصوفًا، ولكن بشكلٍ فلسفي خاص. أتحدث، هنا، عن صوفية جمالية،
ثوريّة، لا عن صوفية انهزاميّة في ذاتها أو مُنسحِقَة أمام العالَم.
شخصيًا، وبكل صدْق، أجدني أنتمي لهذه الصوفية الكبيرة، الناضجة.. التي
تحتضن الوجود كله بين ذراعيها.
يقال عن أنسي إنه كان رجل دين ورجل
إلحاد في آن. أو، بمعنى أدق، كان دانديًا بالمعنى الحقيقي للكلمة (من هو
الداندي؟). في كل حياته، لم يفعل أنسي شيئًا غير الحب والكتابة. كان هو
الأكثر حداثة، وسيظل هو الأكثر تمردًا على الخرافة والمحتوى المعرفي
القديم. وأخيرًا أقول: غياب العظماء، حضورٌ متجدد، وعشقٌ لا ينتهي.