” لم يفعلها فأر سد مأرب “.. بل فعلها طفل أبين!
- وائل جميل
انا داخل سفارة بلدي في مصر الان.. وأتسأل في كل خطوة تقودني الى القاعة :
ـ هل نحن فعلاً بهذا القدر من الديمقراطية ، ليتم تشكيل لجنة تحقيق مع
أبرز سفراء اليمن شهرة وفساد، ومن مسقط رأس رئيس الجمهورية الذي هو ” محمد
مارم ” بخصوص التلاعب بالمنح الدراسية؟
يا للهول.. لقد كنت بدأت أصدق
هذه الحتوته، لولا مشاهدتي لملحق المغتربين اليمنيين الذي يدعى ” الجهمي ”
على يمين الصالة وهو يحاول حماية تلك ” الترته الفاخرة ” من الذباب :
ـ هششش
ـ هششش
ـ لا أعلم كيف وصلت قطعة الكيك إلى ربطة عنقه، حتى إنه أحتار ما بين تنظيف الربطة، او الحفاظ على توازن الترته حتى ينتهي الحفل.
السفير يقف على المنصة.. بجانب لجنة التحقيق وسط ترحيب شديد من قبل موظفي
ومسؤولي الشرعية على كراسي القاعة.. أحدق الى وجوههم، واحد تلو الأخر.. كنت أعرفهم..أعرف ملامحهم التعيسة حينها، لتغدو الان أكثر إنتهازية.. كنت
أستمع الى هتافاتهم في المسيرات وميادين ساحة الحرية والتغير.. والى
تصفيقاتهم الحارة في القاعة لما يقوله السفير.. من كانوا جزء منا.. جنبا
على أكتافنا بصدور عارية.. وفي كل خطوة أمضي بها.. تعود بي الذاكرة الى
الخلف.. من شاهدتهم وسط الغاز المسيل للدموع وقرب خراطيم المياة القذرة
التي تطلقها عربات الأمن المركزي، مع أصوات قناصة الحرس الجمهوري في أحداث ” ثورة فبراير العظيمة “.. ليتحول نضالهم جميعاً الى مجرد ربطات عنق وبدلات
فاخرة!..
أشعر بالأنكسار في الداخل، ثم استجمع قواي لأمضي بقدمان ثابتتان، لأواصل المشي تماماً الى الخلف بهدوء..
كنت أحمل فيض من غيض، كبركان يعصر نزر إشتعالاته وحمم جمرة الى الداخل
بأكثر مرارة بأكثر ألم يستعر بأعماقي الجحيم.. ففي لحظات ما، في سبيل
الكتابة يتوجب على المرء البقاء هادئاً حتى النهاية.. نهاية الهراء.. نهاية الوهم.. نهاية التبريرات التي لا جدوى منها.. وسط هذا الأنكشاف المريع..
وسط صرخات الناس المظلومة الصادرة من الخارج .. من النوافذ المغلقة بـ
إحكام.. المطالبين بمعاملاتهم.. بمنحهم، بمستحقاتهم.. التي يتلاعبون بها
لسنوات لصالحهم.. لأجل إستيطانهم وبقاء نفوذهم..
ـ معالي السفير بقرب
لجنة التحقيق. يتحدث على المنصة ثم يتلعثم بفعل الكذب.. يأخذ نفسياً
عميقاُ.. ثم يشهق.. كـ ” كاثرين لورنس “.. لما انزلق في داخله من فساد
وهمة لا يقوى على مقاومتها او النوم دائماً.. برذاذ وبسيوله ساخنة .. بنبرة تعلو، لينفجر في البواح المباح..
قائلاً :
” أنا.. أنا هنا
أحافظ على ما تبقى من دوبلوماسية الدولة التي سلبها الحوثي، وهناك أكاذيب
وحملات ممنهجة نعرف مصدرها، ومن يقوم بها، لدينا الملحقية الثقافية تلعب
دور كبير في التسهيلات والمساعدات للطلاب المبتعثين منهم “الغير مبتعثين”
فيما يخص معاملاتهم المتعلقة في الجامعات والمعاهد المصرية”
ظل
يردد إسطوانته المشروخه التي يرددها دائما، بخطاب رسمي أعتدنا على سماعه
لسنوات.. بعد سرقته للمنح وبيعها كل عام في الوقت الذي كان فيه بعد الحرب
مباشرة، منذ إستلامه لتقاليد سفارة الجمهورية اليمينة في مصر.. أستولى على
كل المنح المقدمة من الجانب المصري بسبب ضعف أجهزة الدولة في الداخل، وعدم
وجود مقرات خاصة للوزارات الحكومية بسبب الحرب، وبعد أن عادت الحكومة الى
عدن وتم تفعيل مكتب وزارة ” التعليم العالي ” في عدن، بعد عامين من تولي
مارم منصب سفير لليمن في مصر.. وتصرفة بالمنح خلال هذه الفترة.. طالب وزير
التعليم العالي ” حسين عبدالرحمن باسلامة ” محمد مارم .. بتسليمه إدارة
المنح المقدمة من جمهورية مصر.
أشترط مارم تسليم هذه المنح.. بالمقابل
إعطائه نسبة عشرة بالمائة منها.. ليتصرف فيها كيفما شاء إضافة الى خمسين
منحة التابعة لجامعة الازهر الشريف!
ـ وافق وزير التعليم العالي
باسلامه على ذلك.. ومن ذلك الحين يتصرف محمد مارم في تلك المنح المتفق
عليها، يهديها ويبيعها لمن يشاء..
ـ حيث لم يكتفي السفير مارم بالعشرة بالمائة والخمسين المقدمة من الازهر وحسب.. بل ظل يفرض اسماء لمنح، خارج
إطارة العشرة بالمائة.. منها التلاعب هذا العام بالمنح التي قد تم رفعها من وزارة التعليم العالي من عدن.. والتي تخص اوائل الجمهورية!
هييييي.. هيييييي .. إنه يكذب.. إنه يكذب..
أصرخ بملء صوتي.. لكن لا صوت يعلو فوق صوت السفيروحاشيته التي تنفجر
بالتصفيق قبل ان يختم كلامه المبالغ به في كل مشهد..القاعة تعج
بالمسؤولين.. الكراسي تلعن مؤخراتهم.. اللجنة تندهش من خطابه وتصفق هي
كالأخرين.. لا حياد في القاعة.. الجميع في غيهب مما يحدث.. انهض لأقنعهم.. كما لو أن ” جاك نيكلسون ” في القاعة..في المصحة ..تماما في فلم ” أحدهم
طار فوق عش الوقواق “.. هييي من يريد أن يشاهد مبارة لعبة البيسبول؟
هيييي.. من يرد ان يشاهد حقيقة الأمر.. هناك طلبة مظلومين في الخارج.. هناك تلاعب بالمنح ..
إنه يكذب ..
إنه يتلاعب بالمنح يا أوغاد..
أخرج الى الصالة وانا اشعر بالاختناق.. وسط تصفيقات لجنة تقصي الحقيقة وجميع الحاضرين، من يمتثلون إليه.. وتحت إمرته هنا في مصر..
لا أمل يتسلل الى صدري، ” كل شيء توقف في لحظة عابرة “.. أمضي باحثاً عن بوابة الخروج.
” الجهمي ” لا زال يهوش الذباب بيده عن ” الترته “.. بكامل أناقته تلك، منهكاً وهو يهمس لابأس.. لا بأس .. الحفل سينتهي الان.
برهة من الزمن وبعد خروجهم من القاعه.. أصوات أيوب تعلوا على المسامع..
الجميع يحومون حول الترته.. السفير مارم..ووفد اللجنة.. وملحقيي السفارة..
وحاشية التصفيق بربطات العنق.. يلتقطون لهم صوراً تذكارية ..
يييي.. ايها المصور : هل صورة الرئيس ظاهرة خلفي بوضوح؟
ـ يحتفلون بماذا؟
بذكرى 26 سبتمير في 3 أكتوبر!!
يا للهول.. ماذا يحدث؟ ..
الجهمي يجذب السفير هل أعجبتك الترته؟
يجذب نظري إحدى الطلبة بعد أن تسلل الى داخل السفارة بطريقة بهلوانية مع
العم مسافر، وهو يحمل أوراقه.. تماماً نحو الدكتور ” محمد العبادي ”
الملحق الثقافي، قائلاً :
مرحباً استاذي .. انا الطالب ” أيمن الحمادي “.. قضيتي هي ..
كان المسؤول الثقافي مشغولاً في إلتقاط الصور والمساهمة في قطع الترته..
يمر من امامي والطالب يلاحقه بذلك الموقف الذي أعجز عن، بالحقيقة لست
عاجزاُ لكني لا اريد وصفه، لأحتفظ لما تبقت من كرامة الطالب حينها..
لا أمل من لجنة التحقيق التي بعثها الرئيس هادي.. لقد أنتصر السفير محمد مارم مرة ثانية.. هذا ما حدث بإختصار..عدت من حيث دخلت ..تارك زملائي الطلبة خلفي، منهم ذلك الجريح بعكازه وبقدمه الواحدة.. الذي تطرقت لقصته في الجزء الاول.. وانا اتسأل والخيبة تعصر دواخلي :
مامصير تلك المظالم التي تقبع في الخارج ؟
كم قيمة العم ” مسافر ” بذلك الدور المسرحي في تلك البوابة اللعينة ؟