- هدى جعفر
هكذا كان السؤال المرسوم على الشاشة وأنا أشاهد فتاة الشوارع مبسوطة بسَمْتها القذر، ولهجتها “العفشة”، والوجه تتقدمه النظراتُ المقتحمةُ، والحزينة، والمتعالية التي أدتها روبي بكل “حرفنة”.
كان ذلك في 2013، وكان ذلك مسلسل “بدون ذكر أسماء” وقد استمتعنا حينها في 30 حلقة، بواحدٍ من أهم الأعمال الدرامية في الشرق الأوسط، المسلسل من تأليفِ الكبيرِ دومًا وحيد حامد الذي شاهدتُ كل أعماله، التي لم يكن،بالمناسبة، أي منها أفضل من “بدون ذكر أسماء” من إخراج الاسم الجديد آنذاك تامر مُحسن.
بعد هذا المسلسل قدّم مُحسن مسلسل “تحت السيطرة” في 2015 (هو كاتب القصة) عن عوالم المدمنين، ثم “هذا المساء” (قصته أيضًا) في 2017.
ثلاثة أعمال دراميّة، مُنضبطة، ومؤثّرة، وشائكة.
محسن والعدسات الثلاث
لا يأتِ تامر مُحسن بالجديد، وهذا هو السر، بل يقوم بعملية أعقد من هذه، ينتزع أفكاره من اليوميّ المُعاش، مواضيع دهستنا مئات المرات دون أن ننتبه لها، ورقة شخابيط مُهملة مرّت عليها مئات العيون فيلتقطها صانع “أوريغامي” ماهر قرّر أنْ يجعلَ المكانَ أكثرَ جمالًا وأقل إملالًا، فتتحول إلى مسلسل محبوك، و”مدروز” وذكي، بإيقاع لا يتراجع لحظة، وبعددٍ كبيرٍ من مستويات التلقيّ، كم مرة شاهدنا عملًا عن إدمان المخدرات، هل هناك عمل يُشبه “تحت السيطرة”؟، هل كان مسلسل “هذا المساء” يحكي عن تجارب القرصنة و”التهكير” فقط؟ هل استطاع أي مشاهد مقاومة الالتحام الكامل مع قصص “بدون ذكر أسماء”؟
وجه برأسين
يختفي من أعمال تامر مُحسن العدو الكلاسيكي المتواجد عادة في الأعمال الدرامية، الشرير الذي يُعرقل الأبطال ويمنعهم من الوصول إلى مبتغاهم، ويخلق بدلًا من هذا “التقسيم” والخطوط الواضحة منظومةً من العلاقات والمشاعر والرغبات، شبكة عنكبوت منسوجة من حبلٍ ليفيٍ لا يفلت منها أحدٌ ولا حتى المشاهدين، شخوص لا يتواجهون إلا مع ذواتهم، ولا يعجزون إلا أمام عارهم الشخصيّ، مع وجود ذلك النَّفَس المُتهكّم من الحياة التي لا يأس معها ولا أمل.
الأصل والأصل
لو قُدر لشخصيات المسلسلات الثلاث أن تُجسّد نفسها بنفسِها لما اختارت سوى الممثلين/ات الذين قدموها روحًا وجسدًا وحضورًا ، كل ممثل يرتدي دوره كأنّه يعيش هذه الحياة منذ ولادته، من إنجي (#رانيا_شاهين) التي تستحوذ على الشاشة فلا تهرب من سطوتها عين واحدة إلى قصّاص الحمير (#محمد_أبو_الوفا) بانكساره الأزليّ، ومن شريف زهران (#هاني_عادل) الذي يحملُ تعافيه صليبًا على ظهره، إلى نعناعة (صفوة) التي تجابه الزمن مرة ومرتين وعشر، وعبلة الحسيني (#حنان_مطاوع) التي “تطير كالفراشة وتلدغ كالنحلة”، والجامحة هانيا (#جميلة_عوض) بشعرها الذي يتحدث خمس لغات، والموهوب الذي يبدأ فقط #محمد_فرّاج في (رجب الفرخ، علي الروبي، سوني) والصادق صاحب البالين معتمد(#وليد_فوّاز).
ومهما كان عدد مشاهد الممثل/ة فقد احتواه إناءه كاملًا دون نقصان: أم عصام (#هبة_عبد_الغني)، دلال (#دعاء_عريقات)، ميخا (#أسامة_جاويش)، شوشة (#عمرو_رجب)، شبطة (#إيمان_الحلو)، نعمة (#دنيا_النشار)، أم عبير (#زينة_منصور) والكثير غيرهم.
كل شخصيات تامر محسن، حيّة وقريبة، نافذة و”تخبط” القلب مباشرة، تكاد تلمسها وتشم رائحتها، شخصيات تحمل تاريخها في مسامها، وتشاركه مع المشاهد الذي لا يملك سوى التعاطف، والحب، والوقوع “تحت السيطرة”.
كل شيء لدى تامر مُحسن محسوب بالسنتمتر، كل ابتسام، كل رفة جفن، كل إيماءة.
وهو بالتأكيد يعمل مع أفضل الطواقم، الموسيقى التصويرية مع محمد مدحت، وتامر كروان، وأمين بو حافّة، والمونتاج لـ #وائل_فرّاج، وكتابة السيناريو في “تحت السيطرة” مع الكاتبة المهمة والمختلفة #مريم_نعوم، ومع #محمد_فريد في “هذا المساء” الذي أشرف على ورشة الكتابة المكوّنة من سمر عبد الناصر، مها الوزير، عبد الله الغالي، سمر طاهر.
تتنافس مشاهد تامر مُحسن بين المُتقن والأكثر اتقانًا ، منها، على سبيل المثال، مشهد المواجهة بين سمير (#أحمد_داوود)، وفيّاض (#محمد_جمعة) وتريكة (#خالد_أنور) وسوني، في محل التلفونات الذي يُصر الأخير أنْ “ده محل أكل عيش”، ومشهد معتزّ (#لؤي_عمران) وهو يحقن نفسه بالهيروين يائسًا وسط اللجنة المتحلقة حوله بشراسة وغيتار تامر كروان يهدر من اللامكان (شاهدته مئة مرة تقريبًا)، مشهد اللقاء الأخير بين مبسوطة التي أصبحت الراقصة المنعّمة فرحة، وعاطف (#أحمد_الفيشاوي) في “بدون ذكر أسماء” حين يلتقيان ولا يلتقيان فيشعر المشاهد فجأةً بفداحة الزمن الذي لاك الجميع وبصق عليهم.
ينجو تامر مُحسن من فخاخ التكرار والحشو والعادي، فننجو كمشاهدين، وكمعجبين، لآخر نفس!.
هذا هو الموسم الرمضانيّ الثاني، للأسف، الذي يمرّ بدون مسلسل لتامر مُحسن وعوالمه المدهشة، ولا حل سوى مشاهدة المسلسلات الثلاث مرة أخرى، حلقةً حلقة، وفكرةً فكرة، ووترًا وتر، والوقوع في غرامِها للمرة العشرين.